فصل: تفسير الآية رقم (266):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (262- 264):

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)}
يمدح تعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات منا على من أعطوه، فلا يمنون على أحد، ولا يمنون به لا بقول ولا فعل.
وقوله: {وَلا أَذًى} أي: لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها يحبطون به ما سلف من الإحسان. ثم وعدهم تعالى الجزاء الجزيل على ذلك، فقال: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم} أي: ثوابهم على الله، لا على أحد سواه {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِم} أي: فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي: على ما خلفوه من الأولاد وما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها لا يأسفون عليها؛ لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك.
ثم قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ} أي: من كلمة طيبة ودعاء لمسلم {وَمَغْفِرَة} أي: غفر عن ظلم قولي أو فعلي {خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى}
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا ابن نفيل قال: قرأت على معقل بن عبيد الله، عن عمرو بن دينار قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من صدقة أحب إلى الله من قول معروف، ألم تسمع قوله: {قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى}» {وَاللَّهُ غَنِيٌّ} أي: عن خلقه.
{حَلِيمٌ} أي: يحلم ويغفر ويصفح ويتجاوز عنهم.
وقد وردت الأحاديث بالنهي عن المن في الصدقة، ففي صحيح مسلم، من حديث شعبة، عن الأعمش عن سليمان بن مُسْهِر، عن خرشة بن الحر، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب».
وقال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى، أخبرنا عثمان بن محمد الدوري، أخبرنا هشيم بن خارجة، أخبرنا سليمان بن عقبة، عن يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا مدمن خمر، ولا مكذب بقدر».
وروى أحمد وابن ماجه، من حديث يونس بن ميسرة نحوه.
ثم روى ابن مردويه، وابن حبان، والحاكم في مستدركه، والنسائي من حديث عبد الله بن يسار الأعرج، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان بما أعطى».
وقد روى النسائي، عن مالك بن سعد، عن عمه روح بن عبادة، عن عتاب بن بشير، عن خصيف الجزري، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا عاق لوالديه، ولا منان».
وقد رواه ابن أبي حاتم، عن الحسن بن المنهال عن محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي، عن عتاب، عن خُصَيف، عن مجاهد، عن ابن عباس.
ورواه النسائي من حديث، عبد الكريم بن مالك الجزري، عن مجاهد، قوله. وقد روي عن مجاهد، عن أبي سعيد وعن مجاهد، عن أبي هريرة، نحوه. ولهذا قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى} فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى، فما يفي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذى.
ثم قال تعالى: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} أي: لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كما تبطل صدقة من راءى بها الناس، فأظهر لهم أنه يريد وجه الله وإنما قصده مدح الناس له أو شهرته بالصفات الجميلة، ليشكر بين الناس، أو يقال: إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية، مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه؛ ولهذا قال: {وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر}
ثم ضرب تعالى مثل ذلك المرائي بإنفاقه- قال الضحاك: والذي يتبع نفقته منا أو أذى- فقال: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} وهو جمع صَفْوانة، ومنهم من يقول: الصفوان يستعمل مفردا أيضا، وهو الصفا، وهو الصخر الأملس {عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} وهو المطر الشديد {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} أي: فترك الوابل ذلك الصفوان صلدًا، أي: أملس يابسًا، أي: لا شيء عليه من ذلك التراب، بل قد ذهب كله، أي: وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند الله وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب؛ ولهذا قال: {لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.

.تفسير الآية رقم (265):

{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)}
وهذا مثل المؤمنين المنفقين {أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّه} عنهم في ذلك {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي: وهم متحققون مُثَبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء، ونظير هذا في المعنى، قوله عليه السلام في الحديث المتفق على صحته: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا...» أي: يؤمن أن الله شرعه، ويحتسب عند الله ثوابه.
قال الشعبي: {وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي: تصديقا ويقينا.
وكذا قال قتادة، وأبو صالح، وابن زيد. واختاره ابن جرير.
وقال مجاهد والحسن: أي: يتثبتون أين يضعون صدقاتهم.
وقوله: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} أي: كمثل بستان بربوة. وهو عند الجمهور: المكان المرتفع المستوي من الأرض. وزاد ابن عباس والضحاك: وتجري فيه الأنهار.
قال ابن جرير: وفي الربوة ثلاث لغات هن ثلاث قراءات: بضم الراء، وبها قرأ عامة أهل المدينة والحجاز والعراق. وفتحها، وهي قراءة بعض أهل الشام والكوفة، ويقال: إنها لغة تميم. وكسر الراء، ويذكر أنها قراءة ابن عباس.
وقوله: {أَصَابَهَا وَابِلٌ} وهو المطر الشديد، كما تقدم، {فَآتَتْ أُكُلَهَا} أي: ثمرتها {ضِعْفَيْن} أي: بالنسبة إلى غيرها من الجنان. {فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} قال الضحاك: هو الرَّذَاذ، وهو اللين من المطر. أي: هذه الجنة بهذه الربوة لا تمحل أبدًا؛ لأنها إن لم يصبها وابل فطل، وأيا ما كان فهو كفايتها، وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبدًا، بل يتقبله الله ويكثره وينميه، كل عامل بحسبه؛ ولهذا قال: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: لا يخفى عليه من أعمال عباده شيء.

.تفسير الآية رقم (266):

{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)}
قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا إبراهيم بن موسى، حدثنا هشام- هو ابن يوسف- عن ابن جريج: سمعت عبد الله بن أبي مُلَيكة، يحدث عن ابن عباس، وسمعت أخاه أبا بكر بن أبي مليكة يحدث عن عبيد بن عُمَير قال: قال عمر بن الخطاب يوما لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيمن ترون هذه الآية نزلت: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ}؟ قالوا: الله أعلم. فغضب عمر فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. فقال عمر: يا ابن أخي، قل ولا تحقر نفسك. فقال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أيُّ عملٍ؟ قال ابن عباس: لعمل. قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله. ثم بعث الله له الشيطان فعمِل بالمعاصي حتى أغرق أعماله.
ثم رواه البخاري، عن الحسن بن محمد الزعفراني، عن حجاج بن محمد الأعور، عن ابن جريج، فذكره. وهو من أفراد البخاري، رحمه الله.
وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية، وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولا ثم بعد ذلك انعكس سيره، فبدل الحسنات بالسيئات، عياذًا بالله من ذلك، فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق الأحوال، فلم يحصل له منه شيء، وخانه أحوجَ ما كان إليه، ولهذا قال تعالى: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ} وهو الريح الشديد {فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} أي: أحرق ثمارَها وأباد أشجارها، فأيّ حال يكون حاله.
وقد روى ابن أبي حاتم، من طريق العَوْفي، عن ابن عباس قال: ضرب الله له مثلا حسنًا، وكل أمثاله حسن، قال: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} يقول: ضيّعَه في شيبته {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} وولده وذريته ضعاف عند آخر عمره، فجاءه إعصار فيه نار فأحرق بستانه، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه، وكذلك الكافر يوم القيامة، إذ ردّ إلى الله عز وجل، ليس له خير فيُسْتَعْتَب، كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه، ولا يجده قدم لنفسه خيرا يعود عليه، كما لم يُغْن عن هذا ولدُه، وحُرم أجره عند أفقر ما كان إليه، كما حرم هذا جنة الله عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته.
وهكذا، روى الحاكم في مستدركه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: «اللهم اجعل أوسع رزقك علي عند كبر سني وانقضاء عمري»؛ ولهذا قال تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} أي: تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني، وتنزلونها على المراد منها، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].

.تفسير الآيات (267- 269):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ (269)}.
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالإنفاق- والمراد به الصدقة هاهنا؛ قاله ابن عباس- من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها. قال مجاهد: يعني التجارة بتيسيره إياها لهم.
وقال علي والسدي: {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُم} يعني: الذهب والفضة، ومن الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض.
قال ابن عباس: أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عن التصدق بِرُذَالَةِ المال ودَنيه- وهو خبيثه- فإن الله طَيْب لا يقبل إلا طيبًا، ولهذا قال: {وَلا تَيَمَّمُوا} أي: تقصدوا {الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} أي: لو أعطيتموه ما أخذتموه، إلا أن تتغاضوا فيه، فالله أغنى عنه منكم، فلا تجعلوا لله ما تكرهون.
وقيل: معناه: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} أي: لا تعدلوا عن المال الحلال، وتقصدوا إلى الحرام، فتجعلوا نفقتكم منه.
ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا أبان بن إسحاق، عن الصباح بن محمد، عن مُرّة الهَمْداني، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قسم بينكم أخلاقكم، كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحبَّ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده، لا يسلم عَبْدٌّ حتى يُسلِمَ قلبُه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جارُه بوائقه». قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟. قال: «غَشَمُه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفقَ منه فيباركَ له فيه، ولا يتصدقُ به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث».
والصحيح القول الأول؛ قال ابن جرير: حدثني الحسين بن عمرو العَنْقَزيِّ، حدثني أبي، عن أسباط، عن السدّي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب في قول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} الآية. قال: نزلت في الأنصار، كانت الأنصار إذا كان أيام جذَاذ النخل، أخرجت من حيطانها أقناء البُسْر، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل فقراء المهاجرين منه، فيعْمد الرجل منهم إلى الحَشَف، فيدخله مع أقناء البسر، يظن أن ذلك جائز، فأنزل الله فيمن فعل ذلك: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}
ثم رواه ابن جرير، وابن ماجه، وابن مَرْدُوَيه، والحاكم في مستدركه، من طريق السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء، بنحوه.
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك، عن البراء: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} قال: نزلت فينا، كنا أصحاب نخل، وكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته، فيأتي الرجل بالقِنْو فيعلقه في المسجد، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام، فكان أحدهم إذا جاع جاء فضربه بعصاه، فيسقط منه البسر والتمر، فيأكل، وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقِنْو فيه الحَشَف والشِّيص، ويأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه، فنزلت: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} قال: لو أنّ أحدكم أهدي له مثل ما أعْطَى ما أخذه إلا على إغماض وحَياء، فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده.
وكذا رواه الترمذي، عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن عبيد الله- هو ابن موسى العبسي- عن إسرائيل، عن السدي- وهو إسماعيل بن عبد الرحمن- عن أبي مالك الغفاري- واسمه غَزْوان- عن البراء، فذكر نحوه.
ثم قال: وهذا حديث حسن غريب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا سليمان بن كثير، عن الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لونين من التمر: الجُعْرُور ولون الحُبَيق. وكان الناس يَتيمّمون شرار ثمارهم ثم يخرجونها في الصدقة، فنزلت: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُون}.
ورواه أبو داود من حديث سفيان بن حسين، عن الزهري به. ثم قال: أسنده أبو الوليد، عن سليمان بن كثير، عن الزهري، ولفظه: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجُعْرُور ولون الحُبيق أن يؤخذا في الصدقة.
وقد روى النسائي هذا الحديث من طريق عبد الجليل بن حُمَيد اليَحْصُبي، عن الزهري، عن أبي أمامة. ولم يقل: عن أبيه، فذكر نحوه.
وكذا رواه ابن وهب، عن عبد الجليل.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن المغيرة، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن مَعْقل في هذه الآية: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُون} قال: كسب المسلم لا يكون خبيثًا، ولكن لا يصدّق بالحشف، والدرهم الزّيف، وما لا خير فيه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد، حدثنا حماد بن سلمة، عن حماد- هو ابن أبي سليمان- عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: أُتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب فلم يأكله ولم ينه عنه. قلت: يا رسول الله، نطعمه المساكين؟ قال: «لا تطعموهم مما لا تأكلون».
ثم رواه عن عفان عن حماد بن سلمة، به. فقلت: يا رسول الله، ألا أطعمه المساكين؟ قال: «لا تطعموهم ما لا تأكلون».
وقال الثوري: عن السدي، عن أبي مالك، عن البراء {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيه} يقول: لو كان لرجل على رجل، فأعطاه ذلك لم يأخذه؛ إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه رواه ابن جرير.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيه} يقول: لو كان لكم على أحد حق، فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه. قال: فذلك قوله: {إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسه!
رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير، وزاد: وهو قوله: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون} [آل عمران: 92]. ثم روى من طريق العوفي وغيره، عن ابن عباس نحو ذلك، وكذا ذكر غير واحد.
قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي: وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني عنها، وما ذاك إلا ليساوي الغني الفقير، كقوله: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] وهو غني عن جميع خلقه، وجميع خلقه فقراء إليه، وهو واسع الفضل لا ينفد ما لديه، فمن تصدق بصدقة من كسب طيب، فليَعلمْ أن الله غني واسع العطاء، كريم جواد، سيجزيه بها ويضاعفها له أضعافًا كثيرة من يقرض غَيْرَ عديم ولا ظلوم، وهو الحميد، أي: المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
وقوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا هَنَّاد بن السِّرِي، حدثنا أبو الأحوص، عن عطاء بن السائب، عن مرة الهَمْداني، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للشيطان لَلَمّة بابن آدم، وللمَلك لَمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلَمْ أنه من الله، فَلْيحمَد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان». ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا} الآية.
وهكذا رواه الترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سُنَنَيْهما جميعًا، عن هَنَّاد بن السِّرِي.
وأخرجه ابن حبان في صحيحه، عن أبي يعلى الموصلي، عن هَنَّاد، به.
وقال الترمذي: حسن غريب، وهو حديث أبي الأحوص- يعني سلام بن سليم- لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديثه. كذا قال. وقد رواه أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره، عن محمد بن أحمد، عن محمد بن عبد الله بن رُسْتَه، عن هارون الفَرْوِي، عن أبي ضَمْرة عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن مسعود، مرفوعًا نحوه.
ولكن رواه مِسْعر، عن عطاء بن السائب، عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة، عن ابن مسعود. فجعله من قوله، والله أعلم.
ومعنى قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} أي: يخوفكم الفقر، لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله، {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} أي: مع نهيه إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق، يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخَلاق، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ} أي: في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء {وَفَضْلا} أي: في مقابلة ما خوفكم الشيطان من الفقر {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
وقوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاء} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله.
وروى جُوَيْبر، عن الضحاك، عن ابن عباس مرفوعًا: الحكمة: القرآن. يعني: تفسيره، قال ابن عباس: فإنه قد قرأه البر والفاجر. رواه ابن مَرْدُويه.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: يعني بالحكمة: الإصابة في القول.
وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاء} ليست بالنبوة، ولكنه العلم والفقه والقرآن.
وقال أبو العالية: الحكمة خشية الله، فإن خشية الله رأس كل حكمة.
وقد روى ابن مَرْدُويه، من طريق بقية، عن عثمان بن زُفَر الجُهَني، عن أبي عمار الأسدي، عن ابن مسعود مرفوعًا: «رأس الحكمة مخافة الله».
وقال أبو العالية في رواية عنه: الحكمة: الكتاب والفهم.
وقال إبراهيم النخَعي: الحكمة: الفهم.
وقال أبو مالك: الحكمة: السنة.
وقال ابن وهب، عن مالك، قال زيد بن أسلم: الحكمة: العقل. قال مالك: وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله، وأمْرٌ يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله، ومما يبين ذلك، أنك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا ذا نظر فيها، وتجد آخر ضعيفًا في أمر دنياه، عالمًا بأمر دينه، بصيرًا به، يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا، فالحكمة: الفقه في دين الله.
وقال السدي: الحكمة: النبوة.
والصحيح أن الحكمة- كما قاله الجمهور- لا تختص بالنبوة، بل هي أعم منها، وأعلاها النبوة، والرسالة أخص، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبَع، كما جاء في بعض الأحاديث: «من حفظ القرآن فقد أدْرِجَت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه». رواه وَكِيع بن الجراح في تفسيره، عن إسماعيل بن رافع عن رجل لم يسمه، عن عبد الله بن عمر وقوله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع ويزيد قالا حدثنا إسماعيل- يعني ابن أبي خالد- عن قيس- وهو ابن أبي حازم- عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلَّطه على هَلَكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها».
وهكذا رواه البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه- من طرق متعددة- عن إسماعيل بن أبي خالد، به.
وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ} أي: وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب وعقل يعي به الخطاب ومعنى الكلام.